الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ وبعد:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يتبع الميت ثلاثة: أهله و عمله وماله، فيرجع اثنان، ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله" .
وقد شرحه الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالة قيمة، اختصرت كلامه فيها في هذه العجالة:
فقال: وتفسير هذا أن ابن آدم في الدنيا لا بد له من أهل يعاشرهم، ومال يعيش به، فهذان صاحبان يفارقانه ويفارقهما، فالسعيد من اتخذ من ذلك ما يعينه على ذكر الله تعالى، وينفقه في الآخرة، فيأخذ من المال ما يبلغ به إلى الآخرة، ويتخذ زوجة صالحة تعينه على إيمانه، فأما من اتخذ أهلًا ومالًا يشغلونه عن الله تعالى، فهو خاسر، كما قال تعالى عن الأعراب: ﴿ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ﴾ [الفتح: 11].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9].
روى الحاكم في المستدرك من حديث سهل بن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتاني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، و اعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس".
فإذا مات ابن آدم، وانتقل من هذه الدار، لم ينتفع من أهله وماله بشيء إلا بدعاء أهله له، واستغفارهم، وما ثبت عنه من الشرع، وبما قدمه من ماله بين يديه، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].
وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ [الأنعام: 94].
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له".
فأما الصاحب الأول: الأهل، فأهله لا ينفعه منهم بعد موته إلا من استغفر له، ودعا له كما تقدم، وقد لا يفعل، وقد يكون الأجنبي أنفع للميت من أهله كما قال بعض الصالحين: أهلك يقتسمون ميراثك، وهو قد تفرد بحزنك يدعو لك، وأنت بين أطباق الثرى، فمن الأهل من هو عدو، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ﴾ [التغابن: 14].
وأما الصاحب الثاني: وهو المال، فيرجع عن صاحبه أولًا، ولا يدخل معه في قبره، ورجوعه كناية عن عدم مصاحبته له في قبره، ودخوله معه.
روى مسلم في صحيحه من حديث مطّرف عن أبيه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1]، قال: "يقول ابن آدم: مالي، مالي، قال: وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟!" .
وروى البخاري من حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر" .
فلا ينتفع العبد من ماله إلا بما قدمه لنفسه، وأنفقه في سبيل الله - عز وجل -، فأما ما أكله ولبسه فإنه لا له ولا عليه، إلا أن يكون فيه نية صالحة، وقيل: بل يثاب عليه مطلقًا، وقال بعض الملوك لأبي حازم الزاهد: ما بالنا نكره الموت؟ قال: لتعظيمك الدنيا، جعلت مالك بين عينيك، فأنت تكره فراقه، ولو قدمته لآخرتك لأحببت اللحوق به. قال تعالى: ﴿ نْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92].
وكان ابن عمر لا يعجبه شيء من ماله إلا قدمه لله، حتى كان يومًا راكبًا على ناقة فأعجبته، فنزل عنها في الحال، وقلدها، وجعلها في سبيل الله - عز وجل-.
أما الخليل الثالث: فهو العمل الذي يدخل مع صاحبه في قبره فيكون معه فيه، ويكون معه إذا بعث، ويكون معه في مواقف القيامة، وعلى الصراط، وعند الميزان، وبه تقسم المنازل في الجنة والنار، قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46].
وقال تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾ [الروم: 44].
قال بعض السلف في تفسير الآية السابقة:
أي يمهدون لأنفسهم في القبر، فالعمل الصالح يكون مهادًا لصاحبه في القبر، حيث لا يكون للعبد من متاع الدنيا فراش ولا وساد ولا مهاد، بل كل عامل يفترش عمله ويتوسده من خير أو شر، فالعاقل من عمر بيته الذي تطول إقامته فيه، ولو عمره بخراب بيته الذي يرتحل عنه قريبًا لم يكن مغبونًا بل كان رابحًا.
وقال بعض السلف:
اعمل للدنيا على قدر مكثك فيها، واعمل للآخرة على قدر مكثك فيها.
قال الحسن: تبع رجل من المسلمين جنازة أخيه فلما دلي في قبره قال الرجل: ما أرى يتبعك من الدنيا إلا ثلاثة أثواب، أما والله لقد تركت بيتي كثير المتاع، أما والله إن أقالني الله حتى أرجع لأقدمنه بين يدي، قال: فرجع فقدمه والله بين يديه، وكانوا يرون أنه عمر بن عبد العزيز.