كثير من النّاس يظنّون أو يزعمون أنّ الصّبر خُلق سلبي، وأنّ معناه الاستسلام والرضا بالواقع والكفّ عن معالجة الأمور والاحتيال للخروج من الشّدائد والأزمات، وهذا فهم خاطئ ووهم فاسد، لأنّ الصّبر كما يكون جهدًا نفسيًا للتأبي على المعاصي والابتعاد عن السّيِّئات، يكون في كثير من الأحيان جهدًا عمليًا إيجابيًا، فيه حركة وفيه سعي، وفيه إنتاج وفيه تحمّل للتّبعات وتعرّض لجلائل الأعمال ومواقف الأبطال، وقد فهم ذلك البصراء من أعلام هذه الأمّة المجيدة، حتّى في المجال الصّوفي الّذي يُقال عنه جهلًا أو حسدًا إنه يَميل إلى السلبية والرضا بالواقع، ففي الأدب الصّوفي جاء قولهم [الصّبر تعويد النّفس الهجوم على المكاره]، وقولهم أيضًا [تجرّع الصّبر (احتمله) فإنّ قتلك قتلك شهيدًا، وإن أحياك أحياك عزيزًا].
والصّبر لا يناقض الإحساس بالألم لأنّه أمر طبيعي وفطري في الإنسان، ليس مَعيبًا وإنّما المعيب هو الخضوع لهذا الإحساس والرِّضا به، أو الاستجابة لداعيه الّذي يغرق صاحبه في الجزع والهوان. فاللائق بصاحب الصّبر الصّائم الصّادق أن يحاول كي يجعل صبره صبرًا جميلًا لا شكوى معه وإن كان هناك شعور بالألم. والصّبر كما يحدّثنا عنه القرآن الكريم هو صفة الأنبياء والمُرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهو أيضًا خُلق أهل العزيمة القويّة وأصحاب الإرادة الماضية الّذين يعرفون الخير ويعزمون عليه، ويمضون فيه لا ينثنون عنه مهما كلّفهم من تعب أو مشقّة، ومن هنا جعل القرآن الصّبر من{عَزْمِ الْأُمُورِ}. والعزم هو عقد القلب على إمضاء الأمر، وهو أيضًا المحافظة على ما يؤمر به الإنسان، وقيل: إنّ عزم الأمور هو محكم الأمور. قال جلّ علاه: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}الشورى:43، وقال: {إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}آل عمران:186. ويعلّق الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده على مفهوم الصّبر قائلًا: [الصّبر هو تلقّي المكروه بالاحتمال وكظم النّفس عليه، مع الرويّة في دفعه ومقاومة ما يحدثه من الجزع، فهو مركّب من أمرين: دفع الجزع ومحاولة طرده ثمّ مقاومة أثره حتّى لا يغلب على النّفس، وإنّما يكون ذلك مع الإحساس بألم المكروه، فمَن لا يحسّ لا يسمّى صابرًا، وإنّما هو فاقد الإحساس، يسمّى بليدًا، وفرق بين الصّبر والبلادة، فالصّبر وسط بين الجزع والبلادة، وما أحسن قرن التّقوى بالصّبر في هذه الموعظة، وهي أن يمتثل ما هدى الله إليه فعلًا وتركًا عن باعث القلب، وذلك من عزم الأمور أي الّتي يجب أن تعقد عليها العزيمة وتصحّ فيها النيّة وجوبًا محتّمًا لا ضعف فيه].