مقالة فلسفية حول الذاكرة
هل الذاكرة ذات طبيعة مادية فيزيولوجية أو نفسية سيكولوجية ؟
الطريقة : جدلية :
مقدمة : ( طرح المشكلة )
إذا كانت الذاكرة عملية حفظ الصور و الأحداث الماضية واسترجاعها عند وقت الحاجة ،وإذا كانت الإصابة في خلايا الدماغ تعرضها للضعف أو الزوال , هل هذا يعني أن الذاكرة ذات طبيعة مادية فيزيولوجية ، ولكن إذا كانت الصدمة النفسية العنيفة قد تجعل الإنسان الفاقد لذاكرته يسترجع بعضا من ذكرياته ، هل هذا يعني أن الذاكرة ذات طبيعة نفسية روحية؟
و الإشكال المطروح هنا هو هل الذاكرة ذات طبيعة فيزيولوجية أم طبيعة نفسية ؟
العرض : ( محاولة حل المشكلة )
يرى العالم البيولوجي الفرنسي * تيودول ريبو * في كتابه إمراض الذاكرة الذي أصدره سنة * 1881 * بان الذاكرة ذات طبيعة مادية و هي حالة فيزيولوجية يقوم بها الجسم الذي يحتفظ بالصور و الأحداث و يسترجعها عند وقت الحاجة على شكل ذكريات ، يقول ريبو * إن الذاكرة حالة جديدة تغرس في الجسم الذي يحتفظ بها لإعادتها * و عملية الاحتفاظ هذه يقوم بها الجهاز العصبي المتمثل في الدماغ ، إن الذاكرة عند ريبو تختزن آليا في الدماغ بفعل التكرار و تستدرج آليا إذا ما أثير الدماغ ، إن الأشياء و الأفعال في نظر ريبو تنطبع في الدماغ كما تنطبع الأفعال في الجسم ، وقد شبه بهذا الذاكرة بالعادة التي تنطبع في الجسم ، وكذلك شبهها بالاسطوانة التي تحفظ الصور و الأفلام
والدليل عند ريبو هو أن كل أمراض الذاكرة تخضع لفانون التراجع حيث نفقد أولا الذكريات الغير راسخة ثم بعد ذلك الراسخة أكثر.. و هكذا ، فمثلا نفقد ما هو جديد ثم الأكثر قدما ، كما نفقد أسماء الأشياء التي لم نكررها كثيرا ، مما يدل على أن المرض يحدث تدريجيا نتيجة لإصابة تحدث في الدماغ تدريجيا .
وقد أيدت التجارب التي قام بها الطبيب الفرنسي * بروكا * صحة النظرية المادية لريبو حيث اثبت أن أمراض الذاكرة ترجع إلى إصابة في منطقة التلفيف الثالث من الجهة اليسرى للدماغ التي سميت بعد ذلك بمنطقة بروكا ، وكذلك اثبت طبيب الأعصاب الأمريكي * بيفيلد * سنة 1954* نظرية ريبو من خلال اكتشافه أن التنشيط الكهربائي لبعض الأجزاء من الدماغ قد يجعل الإنسان الفاقد للذاكرة يسترجع بعضا من ذكرياته .
غير أن إرجاع الذاكرة إلى الجسم فقط * الدماغ * أمر مبالغ فيه و فيه نوع من الإهمال لجانب آخر مهم الا وهو الشعور في التعرف على الذكريات ، إن الذاكرة ليست عملية تخزين و استرجاع الذكريات فقط بل كذلك عملية التعرف عليها ، بالإضافة إلى أن هذا الموقف عجز عن تفسير فقدان بعض الذكريات في حال إصابة الدماغ ، فليست الإصابة في الدماغ دائما تعرض لفقدان الذاكرة .
وعلى خلاف الموقف الأول نجد موقفا آخر يفسر طبيعة الذاكرة تفسيرا مختلفا يقوم على اعتبار أن الذاكرة ذات طبيعة نفسية روحية ، على هذا الأساس بنى الفيلسوف الفرنسي *هنري برغسون * نظريته في الذاكرة ، إن الذاكرة عنده حالة نفسية وهذا ما وضعه في كتابه * المادة والذاكرة * الذي أصدره سنة * 1889* حيث ميز بين نوعين من الذاكرة ، الأولى هي العادة التي ترسخ في الجسم آليا و تسترجع آليا وهذه الذاكرة العادة هي التي أشار إليها * ريبو * ، أما الثانية فهي في نظره الذاكرة الحقيقية و هي التي تترسخ في النفس على شكل شعور ، كذلك استدل * برغسون * على صحة نظريته من خلال الصدمة النفسية العنيفة التي قد تجعل الإنسان يفقد أو يسترجع ذاكرته ، يقول برغسون * إن التذكر في جوهره يحمل تاريخا * ، هذا بالإضافة إلى أن الإنسان يتذكر دائما الأشياء التي يميل إليها و يرغب فيها فهذا الميل هو عبارة عن شعور نفسي .
غير أننا لو تأملنا في هذا الموقف لوجدنا أن * برغسون * نظر إلى الذاكرة نظرة فيلسوف وليس نظرة عالم لذلك كانت أدلته غامضة و غيبية على عكس أدلة * ريبو * التي كانت علمية واقعية كذلك الصدمة النفسية ليست دائما تؤدي إلى فقدان الذاكرة ، هذا بالإضافة إلى انه لا يمكن اغفال دور الدماغ في عملية حفظ الذكريات .
انه من الخطأ اعتبار الذاكرة عملية آلية محضة تابعة للدماغ فقط ، ولا اعتبارها عملية نفسية فقط ، فكلا الجانبان هما أساس لمعرفة جوهر وطبيعة الذاكرة ، بالإضافة إلى عامل آخر مهم في بناء الذكريات و التأثير فيها ، وهذا العامل هو عامل المجتمع ، الذي اعتبره عالم الاجتماع الفرنسي * هالفاكس * أهم مؤثر في عملية التذكر فالمجتمع في نظره هو من يساعد الإنسان على التذكر من خلال العادات و التقاليد الاجتماعية التي سماها الأطر الاجتماعية للذاكرة ، وألف في شانه كتابه الشهير * الأطر الاجتماعية للذاكرة * حيث يقول في هذا الكتاب * إن الماضي لا يحتفظ به ، إنما يعاد بناءه من الحاضر ، و الذاكرة تكون قوية عندما تنبعث من نقطة التقاء الأطر الاجتماعية * ، كذلك يؤيده في هذا الفيلسوف الفرنسي * جون دولاي* الذي يعتقد أن الذاكرة الاجتماعية عبارة عن لغة أنشاها المجتمع لمقاومة شروط الغياب .
خاتمة : ( حل المشكلة )
وخلاصة القول هو أن الذاكرة ليست ظاهرة مادية فيزيولوجية بحتة ، وليست ظاهرة
نفسية بحتة ، بل هي تكامل ومزيج بين الجسم و النفس لربط الإنسان بماضيه الخاص و
ماضي الجماعة التي يعيش في وسطها