الحمد لله العظيمِ الشان، الحكَمِ المُقسِطِ ذي الإحسان، رفع السماء ووضعَ الميزان، {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} الرحمن8-9. وأشهد ألا إله إلا الله وحده أمر بإفراده بالعبادة والحكم والتشريع، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه مَن أتانا من التشريع بكل أمرٍ بديع، لا بحسب أهواء النفوس، ولكنْ بالقسط المنيع، والجدار الرفيع، حتى أضاء لأمته الزمان والمكان. صلى الله عليه وعلى أصحابه الشجعان، وعلى آلهِ بالغي ذُرى المجد والإحسان، وسلِّم يا ربِّ تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن خير الحديث كتابُ الله تعالى، وأحسن الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعة.
أيها المسلمون، إنَّ من أنزل على أنبيائه القِسط وأمر باعتبار الميزان، هو سُبحانه مَن علَّم هذا المخلوق الضعيف العاجزَ البيان؛ ليَتِمَّ الامتحان، ويجري بالحق أو الباطلِ اللسانُ. قال مجاهد: {ووضع الميزان} أي: العدل.
عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به. قال: ((قل: ربي الله؛ ثم استقم)). قال: قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه؛ ثم قال: ((هذا)) رواه الترمذي وابنُ ماجه، وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح.
وعنه رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي شيء أتقي فأشار بيده إلى لسانه
رواه أبو الشيخ ابن حبان في الثواب بإسناد جيد
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)) رواه أحمدُ وغيرُه وحسَّنه الألباني.
أي عباد الله، إن شريعتَكم الغراءَ جاءت بالعدل، والقِسط في جميعِ أمورها، وهدى الله بها البَشَر إلى أحسَنَ وأقوَمِ سُبُلِها، وإن اللسان كما بقيةُ الأركان إن استقام على ذلك الهدي المستقيم= استحق التقدير والمكافئة، وإن اعوجَّ اعوجَّت باعوجاجه أُمورٌ كثيرة. ألم تأمر نصوص القرآن بعدم مخالفة ما جاء به الرسول قِيدَ أُنمُلة، وألا يحيد المؤمن عن سُنَّته صلى الله عليه وسلَّم ولا إلى رأي أو عقلٍ أو منهج؟!. قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}النور51، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }محمد33.
أيها المسلمون، إن حرية المُسلم لا بُدَّ أن تكون في إطار ما نزله به الروح الأمينُ، على قلبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم ليكون من المُنذِرين= إنْ كُنَّا نُؤمن بأن ذلك حقٌ. فالمسلم حُرِّيَّتُه في عُبوديَّتِه، بل إننا نقول إنه لا حرية حقيقية إلا في ضمن الرِّقِّ والإسار لوحي الله، والانضباط بِدِقَّةِ وعدلِ الميزان، والميزانُ له لسان، فإن مالت الكفة مال اللسان، وإذا مال اللسان مالت الكِفَّة.
نعم في داخل هذا الإطار هناك مجالٌ رحبٌ، رحبٌ جداً للرأي، وللتعبير عن القناعات، ولطرحِ الرؤى، ولاقتراح الحلول... ولكنَّ مَن لم تَسَعه تَوسِعَةُ الشريعة، فراح يُجري خيله في أودية الهلاك – بعد أن هُيِّئت له مضامير الرشاد فلا وسَّع الله عليه، {وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}الرعد33.
أيها المسلمون، يُمكن أن نلِجَ بعد هذه المقدِّمة إلى ذكر بعض الضوابط الشرعية للتعبير عن الرأي، فكما قدَّمنا فليس كُلُّ رأيٍ يكون محموداً ولا راشداً، وكذلك فإن حُكم الشريعة يسري على المُسلم في: الرأي، والفن، والسياسة، والإبداع، والاجتماع، والرضا، والغضب، وفي أمرِه كُلِّه، ولا نقول كما يقول بعضُ مَن في قلبِهِ مرض، بل بعضُ مَن يُخشى عليه مِن أن يخلع ربقة الإسلام مِن عُنُقِه: وما دخلُ الدينِ في الرأي، وما لرجال الدينِ والسياسة، أو إن تدخُّل الدين في الفن والإبداع من التخلُّف وقتل الإبداع= إن قائل هذه الكلمات إنما يُخشى على أصل دينه، فليهنأ أَن خَسِر دينه بكُلِّ إبداع الدنيا المحرَّمِ وغُثائها، فما –واللهِ- له عند الله -بعد دينه- مِن خلاق.
أول الضوابط الشرعية لحرية التعبير عن الرأي: أن يكون الرأي مشروعاً ليس فيه تعالياً على الله ولا على شرعِهِ، وليس فيه التفافاً لتحليل ما حرَّم الله، أو تحريم ما أحلَّ الله. ومنه مشروعية الرأي كذلك ألا يكون فيه كلامٌ في الدين -ولا في غيره مما تتعلَّق به مصالحُ الناس- بالخرص والظنون، فإما أن ينطق بعِلم، أو أن يسكُت بحلم. ولو سكت مَن لا يُحسن لاستراح الناس من معظم خلل القول والعمل، وأنَّى لهم ذلك. قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} فإن تعجَّبتَ من هذا الحُكم الإلهي، وسألتَ عن السبب؛ جاءك الجواب شافياً بقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}الأنعام116. ومِما يدخُلُ في هذا الباب الحذر من تلطيخِ الدين بالبدع والمُحدثات؛ فإنهن مُهلِكات، وإن كان أصحابها يظنون أنَّها تُقرِّبهم من الله، إلا أنها لا تزيدُهُم ومن يُتابِعُهُم من الحقِّ إلا بُعداً.
الضابط الثاني من ضوابط حُرية الرأي: مراعاة ما يؤول إليه الكلامُ من مصلحةٍ ومفسدة؛ فالبُعدُ عن البلبلة، وحِفظُ مصالح الناس، وانتظام معايش الخلق أحق وأولى مِن فسح المجال لكلِمةٍ تقول لصاحبها: دعني. إن الحفاظ على هيبة الشريعة، والحفاظ على وِحدة الصَّفِ وهيبةِ الدولة العادلة، وإبعاد الناس عن التُرَّهات والسُّخف من الدعوة إلى العصبية، والطعن في أحساب الناس وأنسابهم، وعدم إثارة الإشاعات التي تتسبب في الفوضى كُلُّ هذه مقتضياتٌ يجب أن تُراعى في أمانة الكلمة، ويجبُ ألا يخلو المجتمعُ المسلمُ من الأخذ على يدي العابثين الذين يلعبون بالكبريت بجوار خزانات الوقود؛ فإذا انفجرت بهم تضرر معهم الجم الغفير من الناس. قال الله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}الأنعام108.
وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ؛ فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: ((لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُ لَكُمْ)) فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا؛ فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي؛ فَأَنْشَأَ رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى يُدْعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: ((أَبُوكَ حُذَافَةُ))، ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا رَأَيْتُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ، إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا دُونَ الْحَائِطِ)). فَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} رواه البخاري.
وفي حديث أبي موسى عند البخاري قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا؛ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ وَقَالَ: ((سَلُونِي)) فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي؟ قَالَ: ((أَبُوكَ حُذَافَةُ))، ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: ((أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ)) فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَضَبِ قَالَ: إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قال ابنُ رجب رحمه الله: (فدلَّت هذه الأحاديثُ على النهي عن السُّؤال عمَّا لا يُحتاج إليه مما يسوءُ السائلَ جوابُه مثل سؤال السائل: هل هوَ في النار أو في الجنة، وهل أبوه من ينتسب إليه أو غيره، وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء، كما كان يفعلُه كثيرٌ من المنافقين وغيرهم... ثم قال: ويقرب من ذلك السؤالُ عما أخفاه الله عن عباده، ولم يُطلعهم عليه، كالسؤال عن وقتِ الساعة، وعن الروح. ودلَّت أيضاً على نهي المسلمين عن السؤال عن كثيرٍ من الحلالِ والحرام مما يُخشى أنْ يكون السؤال سبباً لنزول التشديد فيه، كالسُّؤال عَنِ الحجِّ: هل يجب كلَّ عامٍ أم لا؟ وفي "الصحيح" عن سعدٍ، عنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: ((إنَّ أعظمَ المسلمين في المسلمين جرماً مَنْ سأل عن شيءٍ لم يحرَّم، فحُرِّمَ من أجل مسألته)). ولما سُئِلَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن اللِّعان كره المسائل وعابها حتى ابتُلي السائلُ عنه قبلَ وقوعه بذلك في أهله، وكان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعةِ المال). اهـ
أما إن في مراعاة هذا الأصل الذي دلَّت عليه الشريعة: كمال البصيرة، وحقيقة التحضُّر، فالحمدُ لله الذي جعل لنا الإسلام ديناً.
الضابط الثالث لحرية الرأي في الشريعة: مراعاة الصِّدق في الأقوال، العدل في الأحكام، فإن المسلم مسؤول عمَّا يخرج من فيه، ونقل الأخبار والمعلومات غير الصادقة، وبناء الرأي عليها نوعٌ من التدليس الذي لا تأذن به الشريعة، بل هو تغرير يُعاقَبُ عليه صاحبُه بحسب ما يؤول فعلُهُ وفعلُ من صدَّقَه إليه. فإذا قال قائلٌ: دلَّت الدراسات الحديثة على أن الدواء الفلاني ينفع في كذا وكذا؛ فصدَّقه إنسانٌ فتضرر، وكانت المعلومةُ مغلوطةً كاذبةً أراد بها التشدُّق والتفاصح أمام الناس؛ فإن هذا لا يُعفيه من مسؤولية قوله. وإذا قال القائل: إن دراسات السوق تدُلُّ على أن القطاع الفلاني سينمو على حساب القطاعات الفلانية... وكان كاذباً مُزوِّراً فتضرر أُناسٌ بشهادته الكاذبة فإنه لا يكون بريئاً، ويجب أن يُؤخذ منه الحق بواسطة القضاء. قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}الأنعام152.
الضابط الرابع: مراعاة حال المُخاطَبين، وهو أمرٌ له تعلُّقٌ بضابط مراعاة فائدة الكلام ومصلحته، فما كُل ما كان حقاً وصحيحاً- كان مناسباً أن يُخاطبَ به كُلُّ أحدٍ من الناس. قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما أنت محدثٌ قومًا حديثًا لا تبلُغُه عقولُهم إلا كان لبعضهم فتنة. وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: بَاب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا، وَقَالَ عَلِيٌّ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
أيها المسلمون، ومن خالف ذلك، وسعى بين الناس بالفتنة، بمقالٍ صحفي، أو حلقةٍ تلفزيونية، أو موضوعات شبكية كان حقَّاً على ولي أمر المسلمين أن يكُفَّ شرَّه عن المسلمين، فإنه عن هذا لمسؤول، وحفظُ دين الناس ومصالِحِهم أولى وأحقُّ من حفظ معايشِهم، وحراسةِ دنياهم، وإن كان هذا واجباً، وهذا واجبٌ أيضاً.
قال ابن عابدين رحمه الله: (والمبتدع لو له دلالة ودعوة للناس إلى بدعته، ويُتَوَهَّم منه أن ينشر البدعة -وإن لم يُحكم بكفره- جاز للسلطان قتله سياسة وزجراً؛ لأن فساده أعلى وأعم؛ حيث يؤثر في الدين. والبدعةُ لو كانت كفراً يُباحُ قتلُ أصحابها عاماً، ولو لم تكن كُفراً يُقتل مُعلِّمُهم ورئِيسُهم زجراً وامتناعا) اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في عبارة محررة: (ومَن لم يندفع فسادُه في الأرض إلا بالقتل قُتِل. مثل المفرِّق لجماعة المسلمين، والداعي إلى البدع في الدين) مجموع الفتاوى: 28/ 108.
وفي التراث الإسلامي الكثير من المواقف الصارمة -مِن قِبَل الوُلاةِ والأُمراءِ- مِن أهل الأهواء مِن أهل الآراء، فمن ذلك:
عن سليمان بن يسار، قال: إن رجلاً من بني تميم يقال له: صبيغ بن عسل، قدم المدينة، وكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه، وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه جلس، فقال له عمر رضي الله عنه: من أنت ؟ فقال: أنا عبد الله صبيغ، فقال عمر رضي الله عنه: وأنا عبد الله عمر، ثم أهوى إليه، فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجه، فجعل الدم يسيل على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي.
قال الإمام محمد بن الحسين الآجري: (فإن قال قائل: فمن سأل عن تفسير: {والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا} استحق الضرب، والتنكيل به والهجرة ؟.
قيل له: لم يكن ضرب عمر رضي الله عنه له بسبب هذه المسألة، ولكنْ لما بَلَغَ عمرَ رضي الله عنه ما كان يسألُ عنه من متشابه القرآن -مِن قبل أن يراه- علم أنه مفتُونٌ، قد شَغَلَ نفسه بما لا يعود عليه نفعُه، وعلم أن اشتغاله بطلب علم الواجبات مِن علم الحلال والحرام أولى به، وبطلب علم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به، فلما علم أنه مُقبلٌ على ما لا ينفعه، سأل عمرُ رضي الله عنه ربَّه أن يُمكِنَه منه، حتى يُنَكِّلَ به، وحتى يُحذِّر غيرَه، لأنه راعٍ يجبُ عليه تفقُّدُ رعيَّته في هذا وفي غيره، فأمكنه الله عز وجل منه) اهـ.
ومن ذلك أيضاً: ما ذكره الشيخ أبو القاسم الطبري الحافظ رحمه الله: واستتاب أمير المؤمنين القادر بالله فقهاء المعتزلة الحنفية في سنة ثمان وأربع مائة؛ فأظهروا الرجوع وتبرؤوا من الاعتزال. ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام والسنة، وَأَخَذَ خطوطهم بذلك، وأنهم مهما خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم.
أيها المسلمون، هذا باب من الدين لا بد للولاة من القيام به، ولا بد للأفراد من مراعاته في أقوالهم، وإلا فإن الحساب عسير، وإن الكلمة التي لا يُلقى لها البال قد تُفسد في الدنيا كما تُفسد في الدين.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم)) رواه البخاري.
اللهم احفظنا من كل سوء ومكروه، وأعنا على قول الخير، وعمل البِرِّ، وعلى ضبط القلم واللسان، اللهم إنا نعوذ بك من أن نخر في النار على وجوهنا بسبب ألسنتنا، ونسألك التوفيق لكل خير.