عائشة أم المؤمنين زوجة سيد آل البيت
الصديقة الطيبة حبيبة حبيب الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
أم المؤمنين عائشة: زوجة سيد آل البيت - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
أكثَرَ المُرْجِفون والمبْطِلون في كلِّ زمن- وفي زمننا خاصَّة- على أمِّ المؤمنين عائشةَ بنتِ أبي بكر- رضي الله عنهما- الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، الطَّاهرة الطَّيِّبة، حبيبة رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- إمَّا لحِقْدٍ في أنفسهم على النبيِّ وعلى آل البيت- صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم- وإمَّا طمَعًا في صرف الناس عن الحقِّ المبين.
وما ضرَّ عائشةَ- رضي الله عنها- افتراءاتهُم، وقد قدمَتْ على فَرطِ صِدْق[1]، زوجِها خاتم الأنبياء والمرسلين، وسَيِّد ولد آدم- صلَّى الله عليه وسلَّم- وأبيها إمام الهُدى أبي بكر الصدِّيق، الخليفة الرَّاشد- رضي الله تعالى عنه.
فاللهم صلِّ وسلِّم وبارك على محمد النبيِّ، وأزواجِه أُمَّهات المؤمنين، وذُرِّيته وآل بيته أجمعين، ومن اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، آمين.
وبعد:
فعن ابن عباس في تفسير قوله- تعالى-: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [النور: 26].
قال: الخبيثات من القول للخبيثين من الرِّجال، والخبيثون من الرِّجال للخبيثات من القول، والطيِّبات من القول للطيِّبين من الرِّجال، والطيِّبون من الرجال للطيِّبات من القول.
قال: ونَزلت في عائشة وأهل الإفْك.
وهكذا رُوي عن مُجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، والشَّعبي، والحسَن بنِ أبي الحَسَن البصري، وحبيب بن أبي ثابت، والضَّحَّاك، واختاره ابنُ جرير، ووجَّهَهُ بأنَّ الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيِّب أَولى بالطيِّبين من الناس، فما نسَبَه أهل النِّفاق إلى عائشة هم أَولى به، وهي أَولى بالبراءة والنَّزاهة منهم؛ ولهذا قال: ﴿ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾ [النور: 26].
وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرِّجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النِّساء، والطيِّبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.
وهذا- أيضًا- يَرْجع إلى ما قاله أولئك باللاَّزم؛ أيْ: ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- إلاَّ وهي طيبة؛ لأنَّه أَطْيب من كلِّ طيِّب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صَلحت له، لا شرعًا ولا قدَرًا؛ ولهذا قال: ﴿ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾ [النور: 26]؛ أيْ: هم بُعَداء عمَّا يقوله أهل الإفك والعدوان، ﴿ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ﴾؛ أيْ: بسبب ما قيل فيهم من الكَذِب، ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾؛ أيْ: عند الله في جنَّات النعيم، وفيه وعْدٌ بأن تكون زوجةَ النبيِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- في الجنة.
• بل ولقد قال النبيُّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- لأُمِّ المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-: ((أُريتُكِ قبل أن أتزوَّجك مرَّتين؛ رأيتُ الملَكَ يَحمِلُك في سَرَقة من حرير، فقلتُ له: اكْشِف، فكَشَف فإذا هي أنتِ، فقلتُ: إن يكن هذا من عند الله يُمْضِه، ثم أُرِيتُك يحملك في سَرَقة من حرير، فقلتُ: اكشف، فكشَف، فإذا هي أنت، فقلت: إن يَكُ هذا من عند الله يُمْضِه))؛ "صحيح البخاري".
• ولم يَكُن شرَفُ الزَّواج برسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- بالأمر الذي تناله أيُّ امرأة، وإنما كان مما لا تَطْمح إليه ذواتُ الدِّين والنَّسب والجمال والمال، إلاَّ أن يَمُنَّ الله- تعالى- عليهنَّ بمحض فضْلِه وكرمه سبحانه، ويَظهر ذلك واضحًا من خلال روايات حديث زواج أمَّهات المؤمنين:
فعن أُمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر قالت: "لمَّا تُوفِّيت خديجة، قالت خَوْلةُ بنتُ حكيمِ بنِ الأوقص امرأةُ عثمانَ بنِ مظعون، وذلك بمكَّة: يا رسول الله، ألاَ تزَوَّجُ؟ قال: ((مَن؟)) قالت: إنْ شِئتَ بِكرًا، وإن شِئتَ ثَيِّبًا، قال: ((فمَن البِكْر؟)) قالت: ابنةُ أحَبِّ خلق الله إليك، عائشة بنت أبي بكر، قال: ((فمَن الثَّيِّب؟))، قالت: سَوْدة بنت زَمْعة، آمنَت بك، واتَّبَعتْك على ما أنت عليه، قال: ((فاذهبي، فاذْكُريها علَيَّ))، فجاءَتْ، فدخلَتْ بيت أبي بكر، فوجَدَت أُمَّ رومان أُمَّ عائشة، فقالت: يا أمَّ رومان، ماذا أَدخَل اللهُ عليكم من الخير والبرَكة؟! أرسَلَني رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم – أَخْطُب عليه عائشة، قالَتْ: وَدِدتُ، انتَظِري أبا بكر؛ فإنَّه آتٍ، فجاء أبو بكر، فقالت: يا أبا بكر، ماذا أَدخل الله عليكم من الخير والبركة؟! أرسلني رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- أَخْطب عليه عائشة"[2].
ثم خرَجَت، فدخَلَتْ على سَوْدة بنت زمعة، فقالت: ماذا أدخل الله عليكِ من الخير والبركة؟! قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسَلَني رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- أخطبك عليه، قالت: وَدِدتُ، ادخلي إلى أبي، فاذكُرِي ذلك له، وكان شيخًا كبيرًا، قد أدرَكَه السِّنُّ، قد تخَلَّف عن الحج، فدخَلَتْ عليه، فحيَّتْه بتحيَّة الجاهلية، فقال: مَن هذه؟ قالت: خَوْلة بنت حكيم، قال: فما شأنُك؟ قالت: أرسَلَني محمَّد بن عبدالله؛ أخطب عليه سودة، فقال: كفءٌ كريم".
وعن أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت: "أتاني أبو سلمة يومًا من عند رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: لقد سَمِعتُ من رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- قولاً سُرِرتُ به، قال: ((لا يُصيب أحدًا من المُسْلِمين مصيبةٌ فيسترجع عند مصيبته، ثم يقول: اللَّهم أْجُرْنِي في مصيبتي، واخلُفْ لي خيرًا منها، إلاَّ فُعِل ذلك به)).
قالت أمُّ سلمة: فحفظتُ ذلك منه، فلما تُوفِّي أبو سلمة استرجعتُ، وقلتُ: اللهم أْجُرْني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منه، ثم رجَعْتُ إلى نفسي، فقلتُ: مِن أين لي خيرٌ من أبي سلمة؟ فقالت أمُّ سلمة بعدُ: أبدَلَني الله بأبي سلمة خيرًا منه، رسولَ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ صحيح.
وعن أُمِّ حبيبة بنت أبي سفيان سيِّد قريش، قالت: "ما شَعرت وأنا بأرض الحبَشة إلاَّ برسول النَّجاشي، جارية يقال لها: أبرهة، كانت تقوم على ثيابه ودهْنِه، فاستأذنَتْ علَيَّ، فأذِنتُ لها، فقالَتْ: إنَّ المَلِك يقول لك: إنَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- كتب إلَيَّ أنْ أُزَوِّجَكِه، فقلتُ: بشَّرَك الله بالخير، وأعطيتُ أبرهة سوارين من فضة، وخدمتين من فضة كانتا علَيَّ، وخواتيمَ مِن فِضَّة كانت في كلِّ أصابع رجلي؛ سُرورًا بما بشَّرَتني به".
فلَمَّا علم أبو سفيان قال: "هو الفَحْل لا يُجْدَع أنفه".
وعن زينب بنت جحش- رضي الله تعالى عنها- أنها: "كانت تَفْخَر على أزواج النبي تقول: زَوَّجَكن أهاليكن، وزَوَّجني الله من فوق سبع سموات، وفي لفْظٍ: كانت تقول: إن الله أنكَحَني في السَّماء"؛ صحيح.
وعن ميمونة بنت الحارث- رضي الله تعالى عنها-: "أنه لما انتَهَت إليها خِطْبة رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- لها وهي راكبة بعيرًا، قالت: الجملُ وما عليه لرسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم".
• وبعد نُزول آية التَّخْيير لم تَبْق مع النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- من نِسائه إلاَّ مَن اختارت الله ورسوله والدَّار الآخِرةَ، وما رَضِيَتْ إحداهنَّ بالله ورسوله- صلَّى الله عليه وسلَّم- والدار الآخرة بدلاً.
فجاء في "تفسير ابن كثير" لقول الله- تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28- 29].
قال: "هذا أمْرٌ من الله لرسوله- صلوات الله وسلامه عليه- بأن يُخَيِّر نساءه بين أن يفارقهن، فيَذْهَبن إلى غيره ممن يَحصُل لهنَّ عنده الحياةُ الدُّنيا وزينتها، وبَيْن الصَّبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهنَّ عند الله في ذلك الثواب الجزيل، فاختَرْنَ- رضي الله عنهنَّ وأرضاهن- الله ورسولَه والدَّار الآخرة، فجَمَع الله لهنَّ بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخِرة".
ثم كان من فضائل عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن أقرَأَها جبريلُ السَّلامَ؛ فعَن أمِّ المؤمنين عائشة: "أنَّ النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- قال لها: ((يا عائِشُ، هذا جبريل يُقرئك السَّلام))، فقلتُ: وعليه السَّلام ورحمة الله وبركاته، تَرى ما لا أرى؛ تريد رسولَ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ "صحيح البخاري".
وإن كان النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- ليتعذَّر في مرضه: ((أين أنا اليوم؟ أين أنا غدًا؟))؛ استبطاءً ليومها- رضي الله تعالى عنها- حتىَّ كان يوم رحيله عن الدُّنيا- صلَّى الله عليه وسلَّم- فتقول أُمُّ المؤمنين عائشة: "إنَّ مِن نِعَم الله عليَّ: أنَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- تُوفِّي في بيتي، وفي يومي، وبين سَحْري ونَحْري، وأنَّ الله جمَع بين رِيقِي ورِيقِه عند موته؛ دَخل عليَّ عبدالرحمن، وبيده السِّواك، وأنا مُسْنِدة رسولَ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فرأيْتُه يَنظر إليه، وعرفتُ أنه يحبُّ السِّواك، فقلتُ: آخُذُه لك؟ فأشار برأسه أنْ نعَم، فتناولتُه، فاشتدَّ عليه، وقلتُ: أُليِّنُه لك؟ فأشار برأسه أنْ نَعم، فلَيَّنتُه، فأَمَرَّه، وبين يديه ركْوة أو علبة- يَشكُّ عُمر- فيها ماء، فجَعل يُدخِل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه، يقول: ((لا إله إلاَّ الله، إنَّ للموت سَكَرات))، ثم نصب يده، فجعل يقول: ((اللَّهم في الرَّفيق الأعلى))، حتى قُبِض ومالَتْ يدُه"؛ "صحيح البخاري".
وإنِّي إذْ أَضْرِب عمَّا يقوله المُرْجِفون والمبطلون صفْحًا، أسأل كلَّ مَن كان له ذَرَّة من إنصاف وعقل وضمير: هل يُمكن لمِثْل أمِّ المؤمنين أن يَغزو الحسَدُ قلبَها على آل بيت رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وزوجها سيِّدهم، وهي أحبُّ الناس إليه، ولم يُدانِها في الفضل واحدةٌ من النساء، فضْلاً عن مكانة أبيها من النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم؟!
وهل يُمكن لمِثْل أُمِّ المؤمنين أن يَغزو الحسدُ قلْبَها على آل البيت، وحالُها معهم كحَال أبيها الصِّدِّيق وهي البَضْعَة منه، فيما رواه عنه شُعبة قال: "لَمَّا مَرِضَت فاطمةُ أتاها أبو بكر الصدِّيق، فاستأذن عليها، فقال عليٌّ: يا فاطمة، هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحبُّ أن آذن له؟ قال: نعَم، فأَذِنَت له، فدَخَل عليها يترَضَّاها، فقال: والله، ما ترَكْتُ الدَّار والمال، والأهلَ والعشيرة، إلاَّ ابتغاءَ مرضاة الله ومرضاة رسولِه، ومرضاتِكم أهْلَ البيت، ثم ترَضَّاها حتىَّ رَضِيَت"[3].
وهل ما زال هُناك مجال للخوض في عَلاقة المسلمين الأُوَل بآل البيت- رضوان الله عليهم جميعًا- وهم الذين نزَل القرآنُ على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بينهم فصدَّقُوه ونَصَروه، وحمَلوا الدِّين بعده إلى الدُّنيا على أرواحهم ومهجات قلوبهم؟!
وهل مِثْلُ أُمِّ المؤمنين عائشة- رضي الله تعالى عنها- بالتي تُرمَى بالافتراءات دون دليل مِن نَقْل، أو حُجَّة من عقل، بعد أن بَرَّأها الله من فوق سبع سموات؟!
أم أنَّه الحِقْد على الإسلام ورسوله، وكُلِّ مَن أحبَّه- صلَّى الله عليه وسلَّم- بدءًا من زَوْجِه وأحَبِّ الناس إليه، ثم أحبِّ الناس إليه من الرِّجال؛ صاحِبَيْه أبي بكر وعُمر، مرورًا بأبي هريرة الذي لازم النَّبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- ونقل سُنَّته ووَهَب لها حياته، بل وحتى آل النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- وذريته لم يَسْلَموا من الافتراءات- رضوان الله عليهم أجمعين- فضْلاً عمَّا في ذلك من قَدْح في النبيِّ ذاتِه- صلَّى الله عليه وسلَّم.
• حبيبةُ حبيبِ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم-:
ولم تكن أُمُّ المؤمنين عائشة- رضي الله تعالى عنها- زوجةَ النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- وحَسْب، وإنما كانت حبيبتَه الطَّاهرة التي افتَرى عليها الأفَّاكون- بلا ذَنْب جنَتْه- لِعِلْمهم بِمَكانها من رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فأرادوا أن يَطْعنوا النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- ودعوتَه في مَقْتَل، ويُشعلوا نار الفتنة في قَلْب المجتمع المسلم النَّقيِّ، فَبرَّأها الله- تعالى- من فوق سبع سموات.
وكانت تلميذتَه النَّجيبة التي شَهِد الله- تعالى- لها، كما شهد لسائر نساء النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- بالعدالة؛ إذْ أمَرَهن بذِكْر ما يُتلى عليهن في بيوتهن من آيات الله والحكمة، فوَفَّتْ وكَفَت، وما عرَفَتْ طعم الرَّاحة في نَقْل سُنَّته، والبلاغ عنه- صلَّى الله عليه وسلَّم- حتى لَقِيت رَبَّها- عزَّ وجلَّ.
• فلو كان لِذي قَلْب يعقل أن يَصِف أُمَّ المؤمنين عائشة- رضي الله تعالى عنها- لَوَصَفها بالوَرَع والتَّواضع، مع ما منحها الله- عزَّ وجلَّ- من نِعَم، لو قُدِّر أن أُعطِيَت إحدى النساء بَعضَها، لكان لها أن تتباهى وتفخر ما شاءت أن تتَباهى وتفخر على النساء.
ولِمَ لا؟ وآلُ البيت زوجُها- صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم- سيِّدُهم، ومكانها عنده أنها أحَبُّ الناس إليه.
وأبوها أنسَبُ قريش لقريش، الَّذي عُرِف بمروءته في الجاهلية، فلمَّا أسلم كان ثانِيَ اثنين في الغار، وأحَبَّ الرِّجال إلى رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم.
ولِمَ لا؟ والنبيُّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- يُعلِن مكانهَا في قلبه على المَلأ، وهو القائد الأعلى لجيوش المسلمين وقْتَ أنْ دانَتْ له العرب، حين يَسأله عمرو بن العاص أحدُ قادة جيشه، عن أحبِّ الناس إليه، فيقول: ((عائشة))، فيقول له: ((مِن الرِّجال؟)) فيقول: ((أبوها))؛ "صحيح البخاري".
فلم يُنَحِّها- صلَّى الله عليه وسلَّم- عن حديث الحبِّ في جوابه الثاني، فيَذكُرَ اسمَ أبي بكر مجرَّدًا؛ وإنما ذكَرَه بِنَسبه إليها- رضي الله عنهما.
ولِمَ لا، وهي الكُفْءُ للثَّناء بِذاتها، مع شُيوع تفَرُّدها بمكانها في قَلْب رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- بين الناس، وإقرار النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- بذلك، حتى رُوي عن عمر- رضي الله عنه- في حديث اعتزال النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- لنسائه شهرًا: أنه دخَل على حفصة، فقال: "يا بُنيَّة، لا يَغرَّنك هذه التي أعجَبَها حُسنُها، وحُبُّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- إيَّاها"؛ يريد عائشة، قال: "فقصَصْتُ على رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فتبَسَّم"؛ "صحيح البخاري".
"... فلمَّا مضَتْ تسعٌ وعشرون، دخَل على عائشة فبدأ بها، فقالت له عائشةُ: إنَّك أقسَمتَ ألاَّ تدخل علينا شهرًا، وإنا أَصبَحنا لِتِسع وعشرين ليلة، أَعُدُّها عدًّا، فقال النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((الشهر تسع وعشرون))، وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين، قالت عائشة: فأُنزِلَت آية التَّخيير، فبدأ بي أوَّلَ امرأة، فقال: ((إنِّي ذاكِرٌ لكِ أمْرًا، ولا عليك ألاَّ تَعْجلي حتى تستأمري أبوَيْكِ)) قالت: قد أعلم أن أبوَيَّ لم يكونا يأمراني بِفِراقك، ثم قال: ((إن الله قال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ﴾ [الأحزاب: 28]، إلى قوله: ﴿ عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 29]))، قلتُ: أَفِي هذا أستأمر أبويَّ؟! فإنِّي أُريد الله ورسولَه والدَّار الآخِرَة، ثم خَيَّر نساءه، فقُلْن مِثل ما قالت عائشة"؛ "صحيح البخاري".
ولِمَ لا؟ وقد "كان الناس يتَحرَّوْن بهداياهم يومَ عائشة، قالت عائشة: فاجتَمَع صواحِبي إلى أمِّ سلمة، فقُلْن: يا أمَّ سلمة، والله إنَّ الناس يتحَرَّون بهداياهم يومَ عائشة، وإنَّا نُريد الخير كما تريده عائشة، فمُرِي رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يأمر الناس: أنْ يُهْدُوا إليه حيثما كان، أو حيثما دار، قالت: فذكَرَت ذلك أمُّ سلمة للنبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- قالت: فأعْرَضَ عنِّي، فلمَّا عاد إلَيَّ ذكَرْتُ له ذلك، فأعرض عني، فلمَّا كان في الثالثة، ذكرتُ له، فقال: ((يا أمَّ سلمة، لا تُؤذيني في عائشة؛ فإنَّه واللهِ ما نَزَل علَيَّ الوحْيُ وأنا في لِحاف امرأة منكنَّ غيرَها))؛ "صحيح البخاري"
بل وقد رَوَت- رضي الله عنها- تقول: "أرسَلَ أزواج النبيِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- فاطمةَ بنتَ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فاستأذَنَت عليه وهو مضْطَجِع معي في مِرْطي، فأَذِن لها، فقالت: يا رسول الله، إنَّ أزواجك أرسَلْنَني إليك يَسْألنك العدل في ابنة أبي قُحافة، وأنا ساكتة، قالت: فقال لها رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((أيْ بُنيَّة، ألسْتِ تُحبِّين ما أحب؟))، فقالت: بلَى، قال: ((فأَحبِّي هذه))، قالت: فقامت فاطمة حين سمِعَت ذلك من رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فرجعَتْ إلى أزواج النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- فأخبرَتْهنَّ بالذي قالت، وبالذي قال لها رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فقُلْن لها: ما نراك أغنيتِ عنَّا من شيء، فارجعي إلى رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فقولي له: إنَّ أزواجك يَنْشُدنك العدل في ابنة أبي قحافة، فقالت فاطمة: والله، لا أكلِّمه فيها أبدًا"؛ "صحيح مسلم".